أمن البحر الأحمر- صراعات إقليمية ودولية تهدد ممرًا حيويًا.

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع10.17.2025
أمن البحر الأحمر- صراعات إقليمية ودولية تهدد ممرًا حيويًا.

إن الأحداث المتصاعدة التي تعصف بمنطقتنا اليوم، تعيد إلى الأذهان النقاشات المتأصلة حول أمن البحر الأحمر، فما إن تخبو جذوة حدث حتى تشتعل أخرى، لتجعل هذه المنطقة محط أنظار القوى الفاعلة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

ليس من المستغرب أن يكون العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وما أعقبه من إجراءات من قبل جماعة أنصار الله الحوثية، والتي تستهدف السفن الإسرائيلية أو تلك المتعاملة معها، أحد هذه الأحداث التي تبرز الأهمية الجيوستراتيجية لهذا الممر البحري الحيوي الذي يربط أركان العالم، والذي قد يشهد تصعيدًا ملحوظًا في الأيام المقبلة، ليتحول إلى ساحة مواجهة رئيسية ردًا على الأحداث الأخيرة والاستهدافات المتزايدة، كالاعتداء الآثم على ميناء الحديدة في اليمن، أو اتساع رقعة الصراع في لبنان، أو الاغتيال الذي طال إسماعيل هنية في طهران، والعدوان المستمر على غزة، مما قد يبشر باندلاع حرب إقليمية شاملة تلوح في الأفق، وسيكون البحر الأحمر نقطة ارتكازها.

منذ اللحظة التاريخية لافتتاح قناة السويس في التاسع عشر من نوفمبر عام 1869، استحوذت هذه البقعة الجغرافية الهامة من العالم على اهتمام القوى الإقليمية والدولية على حد سواء، وازدادت أهميتها مع اكتشاف النفط وتنامي تجارته عبر مياه البحر الأحمر، ليصبح هذا الممر شريان الحياة الذي يغذي الأسواق الأوروبية المتعطشة للطاقة.

لقد ساهمت الطبيعة الجيوبوليتيكية للمنطقة في تأجيج الصراع في البحر الأحمر، حيث تتشارك ثماني دول في مياهه، قد تتعارض مصالحها وتتضارب أهدافها، كما تكثر المضائق الهامة مثل باب المندب وتيران وجوبال، والخلجان الحيوية مثل العقبة والسويس، وتتوزع فيه الجزر البالغ عددها 379 جزيرة، وتتنوع الموانئ الهامة مثل جدة وينبع والسويس وسفاجا والحديدة وعصب ومصوع والعقبة وأم الرشراش "إيلات".

لقد كانت الأهمية السياسية للبحر الأحمر دائمًا هي المحرك الرئيسي لجميع الصدامات وتضارب المصالح التي شهدتها دول المنطقة وغيرها، ومما لا شك فيه أن الصراع العربي الإسرائيلي قد أشعل فتيل التوتر في المنطقة، لأنه الأكثر تأثيرًا في تعارض مصالح دول الإقليم، ومع وجود قناة السويس وحركة التجارة العالمية النشطة، أصبحت المنطقة محط أنظار العالم أجمع، مما يجعل تحقيق الأمن الجماعي أو الشراكة الإقليمية في التنمية الاقتصادية للدول المتشاطئة أمرًا في غاية الصعوبة، وهو هدف ما زالت هذه الدول تسعى جاهدة لتحقيقه منذ نصف قرن دون جدوى.

تعتبر الرغبة الإسرائيلية الجامحة في كسر الاحتكار العربي لهذا البحر من أهم أسباب الصراع الدائر حول أمنه، خاصة في ظل غياب حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي يحترم قواعد القانون الدولي، وبعبارة أخرى، لو كانت هناك حلول قريبة الأمد لهذا الصراع، لأصبح البحر الأحمر على أعتاب شراكة حقيقية بين دوله.

لكن إسرائيل سعت إلى توسيع نفوذها في المنطقة عبر إنشاء ميناء إيلات في أعقاب حرب 1948، وحشدت الدعم الغربي لفتح خليج العقبة أمام سفنها، وأشعلت الخلافات بين دول المنطقة لتحويلها إلى صفقات تسليح أو تدريب عسكري، أو لتبرير تواجدها المادي على أراضيها، وفي بعض الأحيان تشن غارات على ما تعتبره تهديدًا لمصالحها.

بالطبع، هناك مشكلات أخرى أقل أهمية، قد يكون بعضها ناتجًا عن تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، وهي مشكلات تنبع من الأهمية التاريخية للبحر الأحمر كطريق تجاري حيوي ومنفذ بحري هام.

داخليًا:

  • لنأخذ على سبيل المثال الصراع المتعدد الأوجه على السلطة في اليمن، وما يرتبط به من خلافات استدعت تدخل دول الجوار الإقليمي.
  • بالإضافة إلى مشكلة بناء الدولة في الصومال، منذ الاستقلال عام 1960، ومحاولات الشطر الشمالي المطل على خليج عدن وباب المندب الحصول على الاعتراف به كدولة مستقلة، واستمرار حركة شباب المجاهدين كعنصر يهدد الاستقرار الداخلي في الصومال.
  • ثم عدم استقرار الأوضاع في السودان وأزمة بناء الدولة فيه، ومحاولات استغلال ميناء بورتسودان في الخلافات المتعلقة بتهميش سكان الشرق.

كل هذه المشكلات الداخلية في الدول المطلة على البحر تنعكس سلبًا على أمنه، لأن النزاع على السيطرة على هذا البحر يصبح أحد مسارات الصراع الداخلي.

بين بلدان الإقليم:

  • يوجد الخلاف اليمني الإريتري على جزر حنيش الكبرى وحقوق الصيد حولها.
  • والخلاف اليمني السعودي على مجمل الأوضاع الداخلية في اليمن وعلى الحدود بين البلدين، ويرتبط ذلك بمحاولات إيران بسط نفوذها إلى قلب الجزيرة العربية.
  • وهناك الخلاف الإثيوبي الإريتري الذي تتعدد أسبابه، ومنها محاولة إثيوبيا إيجاد موطئ قدم لها على البحر الأحمر.
  • والخلاف الصومالي الإثيوبي نتيجة محاولة إثيوبيا إيجاد منفذ بحري لها عبر التحالف مع جمهورية أرض الصومال.
  • والخلاف الحدودي بين مصر والسودان.
  • وأخيرًا، الخلاف بين مصر وإثيوبيا، الدولة الطامحة لاستعادة شاطئ البحر الأحمر، بسبب سد النهضة.

كل ما سبق من خلافات أدى إلى وجود عدد من القواعد العسكرية الثابتة والمتحركة على شاطئ البحر، وسوق رائجة للسلاح الذي يأتي بعضه من دول المنطقة وبعضه الآخر من خارجها.

فمن داخل المنطقة:

  •   مصر: أنشأت مصر الأسطول الجنوبي، ودعمت قاعدة برانيس البحرية، كما قامت بتحديث وتطوير بحريتها مؤخرًا بعدد من الفرقاطات والغواصات المتطورة.
  • إسرائيل: حققت تواجدًا دائمًا في أرخبيل دهلك الإريتري وفي ميناء وجبال مصوع وتلال الأرخبيل، وأقامت عددًا من محطات التجسس على باب المندب، وتقوم بمراقبة موانئ اليمن على البحر الأحمر، وتتتبع حركة الطيران العسكري الخليجي فوق اليمن، وتراقب موانئ السودان لمواجهة الدعم العسكري الذي يصل للمقاومة الفلسطينية من خلال إيران، وتبيع السلاح الإسرائيلي لأطراف الصراع في الإقليم كدعم لإريتريا في مواجهة اليمن، وتدعم الحكومة في دولة جنوب السودان في مواجهة معارضيها، وقامت مؤخرًا بضرب ميناء الحديدة اليمني في 20 يونيو/حزيران الماضي، وقامت قبل ذلك بضرب السودان لاتهامه بمد حماس بالسلاح الإيراني.
  • جيبوتي: تقوم بتأجير أراضيها لأطراف ذات مصالح متباينة، حيث توجد القواعد العسكرية الأميركية والفرنسية (بها أيضًا جنود من ألمانيا وإسبانيا) واليابانية والتركية والصينية والإماراتية، ويركز التواجد العسكري الأميركي والغربي بشكل عام على تأمين خطوط النفط في البحر الأحمر، وضمان حركة التجارة الدولية، والرقابة على حركة التجارة الصينية.
  • إريتريا: على غرار جيبوتي، تحاول إريتريا التغلب على أزمتها الاقتصادية عبر تأجير أراضيها المطلة على البحر الأحمر، فبالإضافة إلى إسرائيل، سعت أيضًا إلى استضافة الأطراف المختلفة على أراضيها، ومنحت إيران موطئ قدم.

أما الدول الخارجية، فتتنوع دوافع اهتمامها بالبحر الأحمر أيضًا، ففي حين تهتم الصين بتعزيز تواجدها العسكري في جيبوتي لضمان سلاسة حركة تجارتها، تسعى الإمارات إلى ترسيخ تواجدها العسكري في جيبوتي وبربرة وعصب، وتهتم تركيا بتعزيز تواجدها العسكري متعدد الأشكال في جيبوتي والصومال، وذلك أيضًا بهدف حماية استثماراتها ومراقبة التحركات الإيرانية.

وهكذا، أصبح البحر الأحمر ومدخله اليوم يعج بأسباب الصراع، وتتزاحم فيه القوى التي تتضارب مصالحها، وغالبًا ما يتحول إلى ساحة قتال سواء بين الأطراف المتنافسة في أي من دوله، أو بين دولة وأخرى من الدول المطلة عليه، وأحيانًا يكون ساحة صراع بين بعض دوله ودول من خارج إقليمه: (إيران وتركيا وإثيوبيا)، ثم هو ميدان لصراعات الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين.

من هنا يبرز السؤال: هل حان الوقت لتلك الشبكة المعقدة من الصراعات وتضارب المصالح أن تتحد من أجل الحفاظ على أمن البحر الأحمر، الأمر الذي يعود بالنفع حتمًا على الدول المطلة عليه؟ لقد تحطمت مبادرات الحل التي ظهرت في العقود الماضية على صخرة الخلافات، وعلى الدول المطلة على هذا البحر أن تدرك أن الأمن الجماعي لإقليم البحر الأحمر أهم وأسمى من الأمن القطري، وأن الخلافات واستدعاء السلاح من الخارج لم يصب في مصلحة أحد، بل جعل البحر ساحة لمواجهة القوى الكبرى نفسها.

إن 90.2٪ من شواطئ البحر الأحمر تقع ضمن أراض عربية، ولو نجحت هذه الدول في تجاوز خلافاتها وتوحيد صفوفها، فستمتلك قوة هائلة بشكل جماعي، مما يضعف النفوذ الإسرائيلي، وسيفتح آفاقًا واسعة للتعاون الاقتصادي المثمر الذي يعود بالنفع على الجميع، الأمر يتطلب رؤية بعيدة المدى وإنكارًا للذات وتفكيرًا في المصلحة الجماعية لدول الإقليم، وعندما يتحقق ذلك، ستصبح كل واحدة منها قادرة على مواجهة أزماتها الداخلية بشكل أكثر فعالية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة